في عالمٍ باتت فيه الشاشات تحيط بنا من كل جانب، أصبحت الألعاب الإلكترونية جزءًا لا يتجزأ من حياة المراهقين. إنها وسيلة للهروب من ضجيج الواقع، ومتنفسٌ للتعبير عن النفس في عالمٍ افتراضي لا يعرف حدودًا. بين عوالم السحر والمعارك، وبين سباقات السيارات وخرائط النجاة، يجد الشاب نفسه بطلاً، ولو مؤقتًا، في لعبةٍ تمنحه ما لا يمنحه له العالم الحقيقي: الانتصار، السيطرة، والشعور بالقوة.
لكن... ماذا لو لم تكن كل الألعاب بريئة؟
ماذا لو أن لعبةً ما لم تُخلق لتسلّي، بل لتقتل؟
وماذا لو أن شابًا ما، في ركنٍ معتم من غرفته، كان يظن أنه يلعب، بينما كان في الحقيقة يتدرّب على نهايته؟
في أواخر عام 2015، بدأ اسم لعبة غامضة يتسلل بهدوء عبر المنتديات الروسية، ومنصات التواصل، وهمسات طلاب المدارس الثانوية. لعبة لا تُشترى من المتاجر، ولا تُحمل من متاجر التطبيقات. بل تُطلب سِرًا... وتُمارَس في الخفاء... وتُكلفك أغلى ما تملك: حياتك.
اسمها "تحدي الحوت الأزرق".
هذه اللعبة لم تكن مثل باقي الألعاب. لم تكن تَعرض جوائز أو مستويات. بل كانت تختبر شيئًا أعمق بكثير: هشاشة النفس البشرية، وانكسار الروح، وتوق المراهق لفهم ذاته أو إنهائها.
لم تكن مصحوبةً بموسيقى مرحة، بل بمهامٍ مظلمة تمتد لخمسين يومًا، تُحدّثك كل ليلة بصوتٍ خفي: "هل أنت مستعد للمهمة التالية؟"
في صباحٍ بارد من أيام نوفمبر عام 2015، استيقظ سكان جنوب شرق روسيا على خبرٍ لم يكن كغيره. فتاة في مقتبل العمر، لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها، أنهت حياتها فجأة، دون سابق إنذار.
اسمها: رينا بالينكوفا.
كانت رينا تعيش في مدينة صغيرة، حياةً عادية كأي مراهقة روسية: تذهب إلى المدرسة، تستمع إلى الموسيقى، وتنشر صورها على موقع "VK" – النسخة الروسية من فيسبوك. لكن في مساء يوم 22 نوفمبر، نشرت صورة سيلفي مختلفة تمامًا عن كل ما سبق.
كانت الصورة مشحونة بالرمزية...
رينا واقفة في الهواء الطلق، والثلج يذوب على أطراف وشاح أسود يلف فمها وأنفها، كأنها لا تريد أن يتعرف عليها أحد. عينها اليسرى محمرة، كأنها بكت كثيرًا. ويدها مرفوعة أمام العدسة، ترفع إصبعها الأوسط في إشارة تحدٍّ صادمة. بدا وكأن هناك بقعًا داكنة على أصابعها... كانت تلك دماء.
لكن ما هو الأكثر صدمة من الصورة، كان العنوان الذي كتبته: "Nya, bye". ترجمتها الحرفية: "نيّا، إلى اللقاء". كلمة "Nya" مستخدمة في بعض الأوساط الشبابية الروسية بمعنى مستعار يُشير إلى الاستسلام أو النهاية.
في صباح اليوم التالي، ألقت رينا بنفسها أمام قطار مسرع. لم تكن مصادفة. كانت تعلم تمامًا ما تفعله.
في البداية، اعتُبر الأمر حادثة انتحار فردية. لكن بعد سويعات فقط، بدأت صورتها تنتشر كالنار في الهشيم على الإنترنت. عشرات الحسابات أعادت نشرها، وتداول المستخدمون قصتها مع إضافات غريبة، بعضها يزعم أنه يمتلك مقطع فيديو للحظة انتحارها. في تلك المنتديات، حيث يلتقي المراهقون ليناقشوا همومهم وأحزانهم، تحوّلت رينا إلى أسطورة... بل إلى رمز.
شبابٌ آخرون بدأوا برسم وجهها، ونسخ حركاتها، وكتابة منشورات تُحيي ذكراها، كما لو كانت بطلة مأساوية.
لكن أحدًا لم يكن يعرف ما الذي دفعها حقًا إلى الانتحار.
وهنا تبدأ الخيوط تتشابك...
في غرف الدردشة المظلمة على VK، بدأ الحديث عن "اللعبة". لعبة تطلب منك أن تختبر نفسك خمسين مرة، عبر خمسين مهمة، كل واحدة أشد سوادًا من سابقتها. من الاستيقاظ في الثالثة صباحًا، إلى مشاهدة أفلام رعب، إلى تشويه الجسد بآلة حادة. مهمة بعد مهمة، حتى تصل إلى اليوم الخمسين: انتحر.
هل كانت رينا تلعب هذه اللعبة؟
لا أحد يعلم يقينًا. لكن صورتها، وكلماتها، وطريقة موتها... كلها أصبحت هي الشرارة الأولى لما سيتحول قريبًا إلى رعبٍ عالمي.
وسط العاصفة الإعلامية التي أثارتها وفاة رينا بالينكوفا، بدأت الشرطة الروسية ومواقع التحقيقات الإلكترونية تتتبع أثر ما أُطلق عليه لاحقًا اسم "تحدي الحوت الأزرق" (Blue Whale Challenge). جميع المؤشرات كانت تقود إلى شخصية واحدة تُحيط بها الشبهات والغموض: فيليب بوديكين.
كان بوديكين شابًا يبلغ من العمر 21 عامًا، يدرس علم النفس، ويهوى الموسيقى الإلكترونية من نمط "Witch House" – نوع غامض ومظلم يقترب من طقوس السحر والإيحاءات النفسية. وفقًا لما تداولته الصحافة الروسية، لم يكن شابًا عاديًا، بل كان يملك فكرًا منحرفًا، ورسالة خطيرة يؤمن بها بشدة.
في مقابلة مثيرة نشرتها وسائل إعلام روسية، قال بوديكين:
> "هناك بشر... وهناك نفايات بيولوجية. كنت أُطهر المجتمع من هذه النفايات. أحيانًا أشك أن ما فعلته كان خطأً، لكني أعود وأشعر أنني فعلت الشيء الصحيح."
كلمات تقشعر لها الأبدان. لكنها كانت جزءًا من اعترافاته بعد اعتقاله في نوفمبر 2016، بتهمة التحريض على الانتحار.
صرّح أنه بدأ تطوير اللعبة سنة 2013 تحت اسم "f57"، وهو اسم مستخدم يجمع بين الحرف الأول من اسمه "فيليب" ورقمين من رقم هاتفه. هذا الحساب كان بوابة الرعب الأولى.
كيف تُلعب لعبة الحوت الأزرق؟
اللعبة ليست تطبيقًا أو موقعًا يمكن الوصول إليه بسهولة. إنها أشبه بطقس سري يتم عبر غرف دردشة مغلقة على مواقع مثل VK. يشارك المراهقون عبر طلب "الانضمام"، ثم يتواصل معهم "قيّم" يُطلق عليه لقب "المُشرف" أو "القيّم".
يقوم هذا القيّم بإرسال قائمة من 50 تحديًا، يُنفَّذ كل منها على مدار يوم، بعضها في الظاهر بسيط، وبعضها مظلم وصادم.
من بين المهام الموثقة:
استيقظ في الثالثة صباحًا.
شاهد فيلم رعب بمفردك.
استمع لموسيقى حزينة دون توقف.
تحدث مع قيّمك عن مخاوفك.
لا تتحدث مع أحد ليوم كامل.
ارسم حوتًا أزرق على ذراعك.
اقطع جلدك في شكل معين.
قف على حافة سطح بناية.
وفي اليوم الخمسين:
"اقفز من سطح البناية. حرر نفسك."
المُرعب في الأمر أن الأطفال الذين شاركوا لم يكونوا مدركين تمامًا لخطورة ما يفعلونه. اللعبة لم تُقدّم لهم بوصفها لعبة انتحار، بل بوصفها تحديًا نفسيًا، اختبارًا للشجاعة، طريقةً للهروب من واقعهم المؤلم.
وبما أن أغلب المشاركين كانوا مراهقين يعانون من الوحدة أو الاكتئاب، فقد وجدوا في "اللعبة" نوعًا من الانتماء... ووجدوا في القيّمين ما يشبه التقدير أو الحب... حتى وإن كان ذلك سُمًا مغلفًا بالكلمات.
كيف انتشرت اللعبة؟
لم تكن هناك شركة أو موقع واضح خلف التحدي. إنما كانت موجة رقمية، انتشرت بطريقة مشابهة للعدوى الفكرية، عبر:
المنتديات الروسية المغلقة مثل "f57" و"Ocean Whales".
وسائل الإعلام بعد نشر تقرير خطير من الصحفية غالينا مورسالييفا في صحيفة "Novaya Gazeta"، قالت فيه إن 130 طفلًا انتحروا بسبب هذه اللعبة، بين نوفمبر 2015 وأبريل 2016.
مقاطع فيديو مفبركة نُشرت على يوتيوب وتيليغرام، تظهر مهمات اللعبة بشكل سينمائي.
مجموعات دردشة وهمية، شارك فيها مراهقون صغار سنًّا كانوا يتظاهرون بأنهم "قادة" في اللعبة.
ولم يقتصر الانتشار على روسيا. سرعان ما وصلت القصص إلى أوكرانيا، ثم الهند، فإلى بريطانيا، فالولايات المتحدة.
أصبح اسم "الحوت الأزرق" مرادفًا للرعب النفسي الرقمي.
لكن، وسط كل هذا، بدأت الأسئلة تطرح نفسها: هل فعلاً كانت لعبة حقيقية؟ أم أن قصتها تحولت إلى فلكلور عصري مبني على الخوف الجماعي والتضليل الإعلامي؟
سنجيب عن ذلك في الفصل الرابع، حيث نتحدث عن باقي الضحايا في أنحاء العالم، ونكتشف الحقيقة خلف كل حالة... هل كانت لعبة، أم كانت مرآةً لمأساة أكبر؟
مع انتشار الخبر في روسيا وتحوله إلى قضية رأي عام، بدأت حالات الانتحار المرتبطة بلعبة "الحوت الأزرق" تظهر في بلدان أخرى، حتى صار من الصعب التمييز بين الحقيقة والخيال، بين المأساة الفردية والأسطورة الرقمية.
الضحايا في الهند: الرعب في أحياء مزدحمة
في يوليو 2017، عثر على فتى يبلغ من العمر 14 عامًا مشنوقًا في منزله بمدينة مومباي.
أصدقاؤه أخبروا الشرطة أنه كان يتحدث كثيرًا عن "اللعبة"، ويقول إنه يقترب من "اليوم الأخير".
وقد وجدوا على هاتفه صورًا لأسماك الحوت ورسائل مشبوهة على تطبيق "واتساب"، مما دفع وسائل الإعلام الهندية إلى دق ناقوس الخطر.
وفي الشهر التالي، انتحر مراهق في ولاية كيرالا بعدما كتب منشورًا على فيسبوك يقول فيه:
> "أنا أستعد للرحيل. التحدي كان رائعًا. سأقابل الحوت الآن."
سلسلة من الحالات تكررت بنفس النمط:
طفل يقفز من سطح مبنى.
فتى يغلق على نفسه الباب ويفارق الحياة في صمت.
رسومات غريبة على الذراعين.
رسائل وداع مشفرة على مواقع التواصل.
سرعان ما تدخلت السلطات الهندية.
تم حظر روابط مشتبه بها، وصدرت تحذيرات إلى المدارس والأهالي، بل وتدخل البرلمان الهندي نفسه لمطالبة شركات التكنولوجيا بحذف أي محتوى متعلق بهذه اللعبة.
لكن شيئًا غريبًا بدأ يظهر...
الشرطة في معظم هذه الحالات لم تجد دليلًا قاطعًا على أن "اللعبة" كانت حقيقية. لا رسائل واضحة من "قيّمين"، لا تطبيقات، لا تعليمات مؤكدة.
الولايات المتحدة: الشك يطارد الحقيقة
في ولاية جورجيا الأمريكية، انتحرت فتاة في سن المراهقة في ظروف غامضة.
تركت وراءها دفتر رسومات يحتوي على لوحات عملاقة لحيتان زرقاء... لكن لم يكن هناك أي دليل رقمي يربطها بتحدي مباشر أو مراسلات مشبوهة.
ثم جاء دور فتى يُدعى إيسايا غونزاليس من تكساس.
تم العثور عليه مشنوقًا في خزانة غرفته. وكان قد سجل فيديوًا على هاتفه يودّع فيه عائلته ويذكر "اللعبة" بصوت منخفض.
أسرته أصيبت بصدمة، ووسائل الإعلام التقطت القصة، ونُسب كل شيء إلى "الحوت الأزرق".
لكن، مرة أخرى، لم تتمكن الشرطة من تأكيد وجود أي "قيّم" أو طرف خارجي حرّض الفتى.
أوروبا والعالم العربي: الهلع يعبر القارات
في فرنسا، انتشرت تحذيرات عبر المدارس من وجود لعبة خطيرة قادمة من روسيا تُغري الأطفال بقتل أنفسهم.
وفي بلدان مثل إيطاليا، ألمانيا، وحتى الجزائر، بدأت التقارير تتحدث عن محاولات انتحار أو حالات غريبة رُبطت باللعبة دون أدلة ملموسة.
بل حتى في المغرب ومصر، تم تداول أخبار عن أطفال ومراهقين حاولوا الانتحار تحت تأثير "الحوت الأزرق"، وتم تداول صور على مواقع التواصل تُظهر علامات على الأذرع ورموزًا تشبه الحوت مرسومة بالدم أو بأدوات حادة.
لكن الصحفيين والباحثين بدؤوا يلاحظون شيئًا مخيفًا بطريقته:
كلما تحدث الإعلام عن اللعبة... كلما زاد عدد الأطفال الذين يقلدونها.
لم يكن هناك شبكة منظمة، ولا تطبيق واحد، ولا موقع يمكن حظره.
بل بدا وكأن اللعبة لم تكن "كيانًا" حقيقيًا، بل فكرة، ووباء نفسي جماعي.
مثل قصص الأشباح التي تخرج من التلفاز... لكن في هذه الحالة، كانت تخرج من عناوين الأخبار ومنصات التواصل.
ضحايا... أم انعكاس لمشاكل أعمق؟
وفقًا لتحقيقات أجراها صحفيون في موقع "Meduza" الروسي، ومركز "ميدل إيست آي" البريطاني، فإن كل حالة من حالات الانتحار المنسوبة لـ"الحوت الأزرق" كانت مرتبطة أصلًا بمراهق يُعاني من:
الاكتئاب.
التنمر.
الإدمان الرقمي.
مشاكل أسرية حادة.
في معظم الحالات، لم تكن اللعبة سوى ذريعة درامية أو قصة إضافية أُلصقت بالمأساة، بعد وقوعها.
لكن ذلك لا ينفي أمرًا مرعبًا بحد ذاته:
حتى وإن كانت "اللعبة" غير حقيقية بالشكل التنظيمي المعروف، فقد أثرت فعليًا على آلاف المراهقين عبر العالم.
مجرد قراءة قصة عن طفل "كسب التحدي" بقتله لنفسه، كانت كافية لإلهام مراهق آخر ليُجرب نفس الطريق.
وفي ذلك... تكمن خطورة الحوت الأزرق الحقيقية.
> "الكلمة أقوى من الرصاص... وأخطر من الشفرة."
— قول مأثور ينطبق على كل ما حدث بعد ظهور الحوت الأزرق.
عناوين تقتل قبل أن تحذر
مع بداية 2016 و2017، لم تعد لعبة الحوت الأزرق مجرد شائعة روسية، بل تحولت إلى عنوان ثابت في نشرات الأخبار:
"لعبة الموت الجديدة تفتك بمراهقي العالم!"
"تطبيق يدفع أطفالنا للانتحار... انتبهوا قبل فوات الأوان!"
"فتاة صغيرة ترسل رسالة وداع وتلقي بنفسها من الشرفة بعد بلوغ المستوى 50!"
تسابق الصحفيون في نقل القصص، وكل وسيلة إعلامية أرادت أن تكون أول من يكشف "الرعب الجديد".
لكن الحقيقة أن كثيرًا من هذه القصص كانت مبنية على إشاعات أو شهادات غير مؤكدة، وبعضها نُسج بالكامل من خيال محموم.
في الهند مثلاً، نشرت صحيفة شهيرة صورة لذراع طفل وعليها خدوش تشبه حوتًا، وادّعت أنها الدليل القاطع.
لاحقًا، اتضح أن الصورة قديمة، ولا علاقة لها بأي لعبة رقمية.
وفي الجزائر، تم تداول خبر عن طفل "اتبع تعليمات اللعبة وانتحر بعد اليوم 50"، لكن لم يُثبت وجود أي تواصل بينه وبين قيّم، ولم تُعثر على اللعبة في هاتفه.
الصحافة كانت في كثير من الأحيان تنقل الرعب... دون أن تتحقق من مصدره.
الذعر ينتشر كالنار في هشيم العقول
قنوات التلفاز بدأت تستضيف خبراء نفس وأمن معلومات، يعرضون صورًا مأخوذة من الإنترنت ويحللونها كأنها أدلة جنائية.
البرامج الحوارية صارت تتحدث عن "خطر جديد يهدد أبناءنا"، حتى وإن لم يكن هناك تأكيد على وجود تطبيق فعلي أو روابط رسمية.
والمثير للدهشة... أن بعض الأطفال الذين لم يسمعوا عن اللعبة من قبل، بدأوا يبحثون عنها فقط بعد أن رأوها في الأخبار.
هل تصدق أن هناك مراهقين كتبوا في محركات البحث:
"كيف ألعب الحوت الأزرق؟"
> "أين أجد القيّم؟"
> "أريد الانتحار مثل فلان."
وسائل التواصل كانت تشارك في هذا الجنون الجماعي.
المنشورات التي تتحدث عن "خطورة اللعبة" كانت تنتشر كالنار، لكنها في ذات الوقت كانت تسلط الضوء وتثير الفضول، خصوصًا لدى من يشعرون بالوحدة أو الاضطراب النفسي.
حتى أن بعض المستخدمين بدأوا يتظاهرون بأنهم "قيّمون"، ويرسلون تحديات مرعبة لأشخاص عشوائيين لمجرد المرح أو الرغبة في إثارة الفوضى.
أسطورة بلا رأس: اللعبة التي لم تُخلق في مكانٍ واحد
عندما حاول الصحفيون تعقّب مصدر اللعبة، لم يجدوا تطبيقًا رسميًا، ولا موقعًا واحدًا، ولا شركة مبرمجة.
بل كانت هناك عشرات النسخ، وكل نسخة مختلفة: بعضهم يستخدم "واتساب"، وبعضهم يستخدم "تلغرام"، وبعضهم يعتمد على روابط مزيفة.
حتى "فلاديسلاف بودكين" — أحد القائمين المفترضين في روسيا — أنكر أن اللعبة كانت منظمة، وقال في مقابلة نادرة:
> "كل شيء خرج عن السيطرة. كانت فكرة فلسفية، وأصبحت أداة للمجانين... ما ترونه الآن ليس ما بدأته."
من المستفيد؟
الصحف: باعت المزيد من النسخ، وجذبت قراءً جددًا.
القنوات: رفعت نسب المشاهدة.
"اليوتيوبرز": استغلوا القصة لإنتاج فيديوهات مرعبة، بعضها تجاوز ملايين المشاهدات.
وحتى بعض المراهقين: وجدوا في اللعبة وسيلة لجذب الانتباه، أو إثارة الشفقة، أو حتى التمرد على أهلهم.
لكن الثمن كان فادحًا...
أطفال حُرموا من هواتفهم خوفًا.
مراهقون عوقبوا لأنهم رسموا حوتًا على كراساتهم.
أسر دخلت في حالة رعب هستيري، تمنع أولادها من الإنترنت تمامًا.
والأخطر: ضحايا حقيقيون انتحروا... وكان يمكن إنقاذهم لو تلقّوا علاجًا نفسيًا بدل أن يُعاملوا كمنفذين لأوامر "قيّمٍ" خيالي.
الفصل السادس: الحقيقة الباردة – هل كانت لعبة الحوت الأزرق حقيقية؟
> "أسوأ الأكاذيب تلك التي تُبنى على أنصاف الحقائق."
— مثل روسي
ما الذي نعرفه؟
بعد مرور سنوات على انتشار الذعر العالمي، بدأت الأبحاث المستقلة تظهر نتائجها، ومعها الحقائق:
1. لم يكن هناك تطبيق رسمي.
لم تُكتشف أي لعبة مسجلة أو قابلة للتحميل من أي متجر رسمي. لا وجود لـ "Blue Whale" على Google Play أو App Store.
2. لا وجود لمنصة مركزية تدير اللعبة.
كل ما وُجد كان شظايا على مواقع تواصل اجتماعي: رسائل مبعثرة، صور متداولة، مقاطع فيديو مفبركة.
3. القصص متضاربة، والمهام غير موحدة.
أحدهم يقول إن التحدي يبدأ بالاستيقاظ في الثالثة صباحًا، وآخر يقول إنه يجب قطع الجلد مبكرًا. البعض تحدث عن مهام يومية ثابتة، وآخرون نفوا وجود تسلسل واضح.
4. المتهم الرئيسي "فيليب بوديكين" لم يكن مصممًا للعبة كما صُوّر.
وفقًا لشهادات أصدقائه، فإن بوديكين كان يبحث عن الشهرة، واستغل قصص الانتحار ليجذب متابعين لموسيقاه. حتى اعترافاته الإعلامية أثارت الجدل، إذ بدت متناقضة ومبنية على التباهي لا الوقائع.
5. 130 حالة انتحار؟ رقم مشكوك فيه.
هذا الرقم الذي تكرر في مئات المقالات بدأه والد إحدى الضحايا استنادًا لمشاهدات شخصية، لا لتحقيق رسمي. ولا توجد تقارير شرطية تؤكد أن هذه الوفيات كانت بسبب لعبة موحدة.
هل يعني ذلك أن كل شيء كان كذبة
ليس بالضبط...
ما حدث كان مزيجًا معقدًا من:
شائعات رقمية.
شباب يعانون نفسيًا يبحثون عن مكان ينتمون إليه.
صحافة متعطشة للعناوين المثيرة.
أطفال يقلّدون ما يسمعونه دون فهم.
ومع كل قطعة جديدة من الذعر، كانت الأسطورة تكبر… ككرة ثلج تنحدر من أعلى جبل، تزداد حجمًا، وسرعة، وتصبح قاتلة بمجرد أن تُصدق.
لعبة لم توجد… لكنها قتلت!
وهنا المعضلة المرعبة:
حتى وإن لم تكن هناك "لعبة رسمية"، فإن الإيمان بوجودها وحده كان كافيًا لخلق ضحايا.
مراهقون انتحروا فعلًا، لكن ربما ليس بسبب "تحدي من 50 مرحلة"، بل بسبب:
اكتئاب لم يُشخّص.
تجاهل من الأهل.
شعور بالفراغ والوحدة.
تقليد لمن سبقوهم تحت وهم "الاختيار البطولي الأخير".
كأن الرعب الذي صنعناه
بأيدينا، عاد لينقض علينا...
صورة الحوت... أيقونة الحزن الرقمي
ما الذي يجعل صورة لحوت أزرق، تحوم فوق مدينة نائمة، تثير كل هذا الأسى؟
ربما لأننا أسقطنا على ذلك الكائن العملاق ما نشعر به نحن:
الوحدة.
الضياع.
الغرق في أعماق لا يسمع فيها أحد صراخنا.
الحوت الأزرق لم يكن لعبة، بل رمزًا.
رمزًا لجيل يبحث عن معنى، وسط ضجيج الشاشات، وتجاهل الكبار.